المادة    
وهذه النقطة وعند هذه المرتبة نلاحظ أن الإشكالات بدأت تتوارد، وما يثيره الشياطين والمنحرفون والملحدون قديماً وحديثاً عند درجة الخلق والمشيئة.
والذي أشكل على كثير من الناس أنهم قالوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الإنسان، وكتب عليه أنه يفعل الخير ويفعل الشر، وقدّر عليه ذلك قبل أن يخلقه، ثم بعد ذلك يجازيه ويحاسبه عليه؟
وهذا السؤال الذي يظن الكثير من الناس أنه محير وأنه لا جواب له وأنه مشكل ومعضل؛ فبنوا عليه مذاهب باطلة، وما خرجت القدرية التي ظهرت في عهد صغار الصحابة -رضوان الله عليهم- وأنكرت القدر؛ إلا من أجل الشبهة التي يثيرها هذا السؤال! لكن هل تُركنا لتساؤلات المتسائلين أو لشبهات الملحدين؟
إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح لنا هذا الدين مثل الشمس في رابعة النهار، فقد تركنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً -كما أخبر بذلك الصحابة الكرام- فهذه القضية هل تركت ولم تبين؟ لا. فأعظم الناس عقلاً وأعظمهم فهماً وأكثرهم يقيناً وإيماناً وفكراً وعلماً وعملاً هم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فهم الذين سمعوا هذه الأحاديث وتدبروها وعقلوها، وهم أنفسهم الذين سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدة أحاديث عن هذه القضية، وكان يجيبهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم جواب، وهو الجواب الذي لو ظل الناس يبحثون وينقبون؛ فلن يجدوا جواباً أبلغ ولا أبين منه، وأنا لا أذكر لكم إلا بعضاً منها، فأذكر لكم حديثاً فيه قصة تنطبق على هذه الشبهة.
: { كان عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه يجالس أبا الأسود الدؤلي، وفي أحد الأيام قال عمران لـأبي الأسود يا أبا الأسود! أرأيت ما يعمله الناس، وما يكدحون فيه؛ أهو في أمر قد قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلغهم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
فهذا الصحابي يمتحن التابعي، ويقول: هذه الأعمال التي يعملها الناس الآن من طاعات أو معاصي هل هي أمر قد قُضي ومضى وكتب عليهم قبل أن يوجدوا أم فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلّغهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فوضعه موضع الامتحان.
قال أبو الأسود: {قلت: لا. بل فيما قد قُضي ومضى، فقال له عمران: وكيف يجازيهم على ذلك؟} أي: إذا كان قد قضى ذلك وكتبه فكيف يجازيهم على ذلك.
{فقال أبو الأسود: ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: سبحان الله! ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء:23] هو ربهم وهو خالقهم! فطمأنه عمران رضي الله عنه وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}، أي: لأختبرك، هل أنت متمكن من الإيمان وقوي أم أنه لو جاءتك شبهة لذهبت بك يميناً أو شمالاً؟ ثم قال عمران: {أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان -وفي رواية رجل من مزينة- فقال له: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل فيه الناس ويكدحون، أفيما قد قُضي ومضى، أم فيما يستقبلون به مما قامت عليهم به الحجة وبلغه نبيهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل فيما قد قضي ومضى}.
وورد مثل ذلك في الحديث المتفق عليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة، أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا السؤال، فقالوا: {يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة يسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَىوَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) [الليل:5-10]
}.
  1. من نتائج الإيمان بالقدر

    هذا هو الفهم الصحيح الذي فهمه الصحابة الكرام، وكان من أشد الأمور التي دفعتهم للاجتهاد، والحرص على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فإنسان يعلم أن من كان من أهل السعادة وأهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ماذا تكون النتيجة؟ سيجتهد ويكدح ويحرص على أن يستكثر من الخيرات؛ ليكون من أهل السعادة ومن أصحاب الجنة. وأما المعرضون المنحرفون فإنهم يعارضون أمر الله، ودينه بمشيئته وبقضائه ويعجزون، بخلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال : {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك أمر فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فيجب على الإنسان أن يسعى، وأن يحرص على الطاعات وعلى ما ينفعه ويقربه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فاحرص واجتنب واجتهد، فإن كنت مؤمناً قوياً؛ فاعلم أنك خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف.
    والمؤمن الحريص على كل ما يقربه من الله، والعامل المجتهد في طاعة الله أحب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخير عنده من المؤمن الضعيف والعاجز الذي يُلقي كل ما يأتيه من الخير والشر على القدر ولا يعمل، فهذا شأنه، وهو أنه يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا؛ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وقال: {فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فهكذا يرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حرصاً واجتهاداً في طاعة الله وفي عبادة الله، لماذا؟! لأنهم يعلمون هذه الحقيقة الواضحة النيرة، فهم حريصون على الأخذ بها.
    ومثال ذلك الرؤيا الصالحة: إنسان بحالة حسنة طيبة، فرأى رؤية صالحة بأنه سيكون له ذرية كثيرة، فإنها جزءٌ من ست وأربعين جزءاً من النبوة؛ أو شيء يطلع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإنسان عليه من الغيب الذي سيقع، فرأى في المنام هذا، واستبشر بهذه الرؤيا، وفرح وسر بها فإن ذلك يدفعه إلى أن يبادر إلى أن يتزوج الزوجة الصالحة، وإلى ألا يتخذ أي مانع مما قد يمنع الحمل من الأسباب المعروفة لتتحقق له تلك الذرية. وكذلك لو أنه بشر من عند الله عز وجل -كما في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو جاءته مبشرات -كرؤيا مثلاً- أنه سوف يكون لديه من هذه المزرعة ثمر ورزق ونخل كثير.. فما الذي يفعله الإنسان العاقل عادة؟ سيجتهد ويحرص أن يكسب أكثر ما يستطيع لتتحقق له تلك البشرى.
    لكن لو قال: أنا سيكون لي أولاد، ولم يأخذ بالأسباب، فهذا يكون إنساناً غير عاقل.
    فالقدر علم علمه الله عز وجل وكتابة كتبها، ثم شاء ذلك، ولا بد أن تقع مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم خلق ذلك فينا؛ فمعنى ذلك أنه يجب أن نتسابق، ونحرص على طاعة الله، ونجتهد في الطريق الموصل إلى مرضاة الله وإلى جنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي نكون من أهل السعادة الميسرون لها، كما أن أهل الشقاوة ميسرون لها، أجارنا الله وإياكم، وأعاذنا من الشقاوة وأهلها.
  2. شبهة القدرية والرد عليها

    والقدرية الذين من أجلهم روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه أركان الإيمان، وأركان الإسلام، ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر لما أن جاءه ركب العراق وأخبروه أن معبداً الجهني ومن معه ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف.
    فقال عبد الله: [[أبلغوهم أنني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه إلا أن يؤمن بالقدر]] ونقل مثل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه بل إنه قال: ''لو مكنت من أحد منهم لدققت عنقه''.
    فهذا أول شرك يقع في هذه الأمة، وأول نقض يقع لعرى التوحيد، وكان أول ما وقع في مسألة الإيمان بالغيب هو إنكار الإيمان بالقدر؛ فقالوا: الأمر مستأنف، والعبد هو الذي يخلق ما يفعله من طاعة أو معصية.
    وحتى نعرف مذهب القدرية نذكر مذهب أهل السنة والجماعة؛ فالضد بالضد يعرف.
    فما هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تدل عليه الآيات والأحاديث؟
    أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن كل عمل من أعمالنا نحن بني آدم من طاعات أو معاصٍ نحن نعمله ونحن نفعله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نسب لنا العمل ووصفنا به: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)) [الزلزلة:7-8] وفي القرآن يتكرر كثيراً: وتعملون، تفعلون، وكذلك يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة.. وكل الطاعات؛ وكذلك المحرمات.. يشركون، يزنون، وما أشبه ذلك، فقد ورد في القرآن جميع الأفعال منسوبة إلى الإنسان.
    إذاً فالإنسان فاعل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وخلق عمله؛ ولكن العبد هو الذي فعل ذلك.
    والقدرية الذين أنكروا القدر قالوا: لا، إن الإنسان هو الخالق -هو الذي يخلق فعل نفسه- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    وقالوا: لو قلنا: إن الله هو الخالق، فكيف يخلق الفعل في الإنسان ثم يجازيه عليه؟
    فهذه هي الشبهة التي أثيرت. فيقول لهم أهل السنة والجماعة: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الفعل، ولكن الإنسان هو الذي فعله. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي شاء ذلك، فشاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعصيه من عصى وأن يكفر به من كفر، وأن يشرك به من أشرك، ولكن هل كل ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكل ما شاءه رضيه؟ لا.
    إذاً لا بد أن نسلط الضوء على هذه القضية، حتى نعرف لماذا وقع اللبس عند المشركين؟ ولماذا وقع اللبس حتى عند كثير من الناس في مسألة القضاء والقدر؟
  3. أنواع الإرادة

    يظن الذين لديهم شبهات في هذا الموضوع أن ما شاءه الله عز وجل وقدره فقد رضيه، وهذا لا يصح! لا على مقتضى القرآن ولا السنة، ولا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء الإيمان، وشاء الكفر، شاء الطاعة، وشاء المعصية، وهذه مشيئة كونية وإرادة كونية. فأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمقتضى الحكمة العظيمة الجليلة أن يكون في الناس مؤمن وكافر: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [التغابن:2].
    فحكمته عز وجل اقتضت أن يجعلهم فريقين، فهذه مشيئته الكونية وإرادته الكونية؛ ولكن رضاه لا يتعلق بهذه المشيئة؛ بل رضاه عز وجل يتعلق بمشيئته الشرعية وبإرادته الشرعية؛ فأرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب لتبين للناس ما الذي يرضاه الله، وما الذي يحبه الله عز وجل، وما الذي يبغضه الله عز وجل، وما الذي يسخط الله، وما الذي لا يريده الله.
    ولهذا لو سألك أحدهم عن رجل لم يصلِّ أو فجر أو كذب أو زنا أو سرق، فقال لك: هل أراد الله عز وجل أن يفعل هذا الرجل هذا الفعل؟
    فإن قلت : نعم أراد الله -هكذا بالإطلاق- فقد أخطأت، وإن قلت: لا، لم يرد الله أخطأت أيضاً.
    فلابد أن نفصل في الكلام، فنقول: ماذا تريد: بأراد؟ فإن كنت تقصد بأراد، أي: أن الله شاء ذلك وعلمه وكتبه وقدره عليه؛ فنعم، فإن الله تعالى شاء ذلك حتى ولو كان شراً أو كفراً أو فجوراً أو معصية فهو الذي شاءه، فلا يقع شيء في الكون إلا أن يشاء الله، وبما يريد الله.
    وإن أردت بقولك: هل أراد الله من هذا أن يزني وأن يسرق؛ أن الله تعالى يرضى بذلك ويحبه؟ فلا، بل نقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يزني الزاني، ولم يرد أن يسرق السارق، أي: لم يحب ذلك.
    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحب ذلك، ولم يشرعه، ولم يأمر به ولم ينزله في كتاب، ولم يرسل به رسول.
    إذاً: الإرادة هنا لها معنيان: إن أردنا بها الإرادة الكونية التي هي مطلق المشيئة - مجرد المشيئة - فنعم، فإن الطاعة والمعصية كلها أرداها الله ووقعت، لكن إن أردنا بالإرادة المحبة، فلا يريد الله -أي لا يحب الله- إلا ما شرع، وإلا ما أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب.
  4. شبهة القدرية المشركية

    ولهذا عندما احتج المشركون بالمشيئة، واعترضوا بالمشيئة، أبطل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجتهم في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة الأنعام: (( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ))[الأنعام:148] وأكد ذلك بعد أن وقع في سورة النحل: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)) [النحل:35] فهذين موضعين احتج المشركون فيهما بالمشيئة، أي: في مضمون كلامهم: لو شاء الله تعالى ما أشركنا.
    وقال في سورة الزخرف: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ )) [الزخرف:20] فما معنى ذلك؟
    يقولون: الله عز وجل شاء لنا أن نعبد هذه الأصنام، أي: أنه راضٍ بذلك، ولو شاء ما عبدناها، وهذا الكلام قالوه في موضع رد الرسالة وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا تريد منا يا محمد؟ أن نترك عبادة الأصنام؟ لا، لو شاء الله ما عبدناها، ولو شاء الله ما أشركنا.
    وقالوا: ذلك في الموضع الرابع، في موضع الأمر بالإحسان: ((أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[يس:47] فلو شاء الله أطعمهم فكيف نحن نطعمهم؟
    إذاً هم يريدون ألا يؤمنوا؛ لأن الله شاء الكفر، ويريدون ألا يحسنوا؛ لأن الله لو شاء الإطعام لأطعمهم.
    فالمقام هنا مقام الاعتراض والتكذيب والرد لرسالة الرسل، ولهذا عقب الله تبارك وتعالى على قولهم هذا في سورة النحل، فقال: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] أي فضلاً وعدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو كان الأمر كما تقولون؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، يقولون لكم: هذا يريده الله ويحبه، وهذا يكرهه؟!
    فالمشركون إذاً لم يكونوا يثبتون القضاء والقدر، بل جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الحديث الصحيح في صحيح مسلم- يجادلونه في القدر؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليهم: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49] فهم لا يؤمنون بالقدر؛ وإنما قالوا: نحن نؤمن بمشيئة الله؛ لأنهم قالوها معترضين بها على الشرع، ويريدون أن تكون لهم حجة في ترك الأمر والنهي؛ ولهذا قال عز وجل عنهم في سورة الأنعام: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [الأنعام:149] سبحان الله يكذبهم في قولهم: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:148] ثم يقول: ((وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [النحل:9].
    فقليل البصيرة قد يقول لك:كأن بعض الكلام متناقض مع بعض -عياذاً بالله- وهذا خطأ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء (كوناً وقدراً) لهدى الناس أجمعين، وفي هذه الحالة فلا يحتاج إلى رسل ولا يحتاج إلى كتب، فقد هداهم أجمعين؛ لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لهم المشيئة فقال سبحانه: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإنسان:3] وقال: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) [الكهف:29] لكنه عز وجل أقام الحجة عليهم بالرسل؛ فليس لأحد حجة على الله كما قال سبحانه: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [الأنعام:149].
    إذاً: فهذا النوع الأول من أنواع الاعتراض، وهو اعتراض القدرية التي تسمى القدرية المشركية الذين اعترضوا بمشيئة الله واحتجوا بها على رد أوامره ونواهيه، ورد دينه وشرعه، وتكذيب أنبيائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  5. شبهة القدرية الإبليسية

    والنوع الثاني من أنواع المعترضين -وهو واقع في الناس اليوم- هم: القدرية الإبليسية -نسبة إلى إبليس- الذي حكى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: ((قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:39] فإبليس أبى أن يسجد لآدم واستكبر وكان من الكافرين، فكتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدين، وأخرجه وطرده من رحمته، وعندئذٍ اتخذ هذا الموقف من آدم وذريته -موقف العداوة والإضلال والإغراء- إلى أن تقوم الساعة؛ فأراد إبليس أن يحتج على فعله هذا، فلم يقل: فبعصياني وبكفري وبإلحادي وباستكباري سأغويهم، بل قال: ((قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:39].
    فإبليس يقول: ما دام أنك يا رب أغويتني؛ فسوف أستمر في إغواء بني آدم.
    وهذا النوع واقع في حياة الناس اليوم، فـالقدرية تقول لأحدهم صلِّ، فيقول: لم يرد الله ولم يكتب لي أن أصلي -فيستمر في ترك الصلاة- ولو شاء الله ذلك لصليت؛ لكن لم يكتب الله ذلك لي؛ فلن أصلي. فهو يستمر في الغواية ويستمر في المعصية، ويقول: إن الله ما شاء وهو الذي عصى، ولو شاء هذا الإنسان لقام وتوضأ وصلى؛ لكن الشيطان ألقى الشبهة الإبليسية هذه في أتباعه من شياطين الإنس، ومن المتبعين له الذين وقعوا في حبائله فأصبحوا يحتجون بهذه الشبهة: ما دام أن الله أغواني وما هداني فسأستمر، وما دمت قد أغويتني فسوف أستمر في إغواء الناس، فالشبهة المشركية -أو الشبهة الشركية- والشبهة الإبليسية واقعتان في الناس اليوم.
  6. شبهة القدرية المجوسية

    والشبهة المجوسية في القدر هي شبهة الذين قالوا: كيف يخلق الله عز وجل الخلق، وكيف يخلق الأفعال في الإنسان ثم يحاسبه ويجازيه عليها؟
    فقالوا: إذاً ننكر ما سبق، ونقول: الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ وهؤلاء قد كذبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها في قوله: (( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))[الزمر:62] وفي قوله: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))[الصافات:96] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم.
    وهؤلاء القدرية من النوع المجوسي- القدرية المجوسية- يثبتون خالقين: إله النور (خالق الخير)، وإله الظلمة (خالق الشر) قالوا: فعل العبد من الطاعات خلق الله، وأما المعاصي فهي من خلق العبد حتى لا ننسبها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال فيهم السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله؟
    وعلم الصحابة وعلم السلف علم كلماته قليلة لكن تحتها علم كثير غزير، فكيف ناظروهم، وكيف جادلوهم؟ هل بكتابة أربع أو خمس مجلدات في فلسفات طويلة في القدر؟! لا، بل على نفس منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فناظروهم بجواب شاف كافٍ بأوجز الكلمات، قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف: ''ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا''.
    فأول ما نبدأ معه أن نقول له: ماذا تقول في العلم؟ هل علم الله عز وجل أنك تفعل هذا أم لا؟ فإن أقر به خُصم وقُطع، فتقول: هل علمه؟ فيقول: نعم. فهل كتبه؟ يقول: نعم. فهل شاءه؟ يقول: نعم. فهل خلقه؟ يقول: لا. فنقول: لا. أنت مخصوم ومحجوج، لأنه علمه وكتبه وشاءه وخلقه! فما هو المانع؟ لماذا تؤمن بثلاث مراتب والرابعة تتركها؟ لا يمكن هذا.
    إذاً: فهم إن أقروا بالعلم خُصموا، وإن أنكروه وقالوا: لم يعلمه -عياذاً بالله- فهذا كفر، فبعد ذلك ليس هنالك حاجة أن تتناقش معهم؛ فكون الله عز وجل يعلم كل شيء، هذه حقيقة بديهة يعلمها جميع المؤمنين بل حتى من الأمم الكافرة يعلمون أن الله يعلم بكل شيء، وكل من يقر بوجود الله يعلم أنه يعلم بكل شيء.
    فمن يقول لك: لا. لم يعلم الله كل شيء! ولم يعلم أفعالي! فهذا بدون جدال هو كفر، ونكفره على أمر بين، لا على أمر قد تدخله الشبهة، فنكفره بأمر بين واضح، وهو إنكار العلم الذي لا يخفى على أي مؤمن، ولهذا نجد أن السلف الصالح ذكروا في كتبهم عن القدر حقائق وقصصاً ووقائع مما يوضح المراد، ولتعرف الفرق بين المؤمنين بالقدر وبين القدرية بأنواعهم.
    فقد ذكروا أن رجلاً جاء إلى عمرو بن عبيد وهو زعيم القدرية المعتزلة الأولين، وهو الذي أظهر مقالة معبد الجهني؛ لأن -كما تعلمون- أول من أظهر القدرية بعد معبد الجهني في البصرة هو غيلان الدمشقي الذي كان في المدينة ثم انتقل إلى دمشق، فتلقفها عمرو بن عبيد.
    وعمرو بن عبيد كان من النوع الذي يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد الشر، فليس عنده إرادة، إلا إرادة واحدة، وليس كما قلنا: إن الإرادة إذا كانت بمعنى المشيئة المطلقة فلها حكم، وإن كانت بمعنى المحبة فلها حكم آخر، فعنده إرادة واحدة، وكان من العباد الزهاد جداً، فجاءه أعرابي بدوي لا يعرف شيئاً من الدين، وقال: دلوني على رجل صالح، وكان هذا الأعرابي قد ضاعت منه ناقته، فجاء يبحث عن رجل صالح يدعو الله له أن يعيد له ناقته، فدلوه على عمرو بن عبيد، وقالوا: هذا رجل زاهد وعابد فاطلب منه أن يدعو الله لك، فجاء إلى عمرو فقال له: مالك؟ قال يا عمرو: إن ناقتي قد ضاعت وفقدت ولا أدري من الذي أخذها فادع الله لي؟ فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته، فردها عليه! فالأعرابي بفطنته رأساً قال: لا حاجة لي في دعائك، فقالوا له لماذا؟ قال: ما دام أنه قد أراد ألا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع!
    فالإرادة عند عمرو بن عبيد إرادة واحدة فقط.
    ولهذا يقال: إن مجوسياً وقدرياً أيضاً ركبا في سفينة، وأخذا يتجاذبان في القدر، فقال المجوسي للقدري: الشيطان لما فعل وعصى هل فعل ذلك بقدر من الله؟ فقال القدري: لا. قال: إذاً غلبه. -عياذاً بالله- فقال له: لم لا تسلم؟ قال: أنا مع أقواهم. أي: على كلامك أن الله لم يرد أن يكفر الشيطان وكفر فاتركني أكون مع القوي!